فصل: كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ

مساءً 11 :29
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*1*المجلد التاسع

*2*كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

‏(‏كتاب فضائل القرآن‏)‏ ‏.‏

ثبتت البسملة و ‏"‏ كتاب ‏"‏ لأبي ذر ووقع لغبره ‏"‏ فضائل القرآن ‏"‏ حسب

*3*باب كَيْفَ نَزَلَ الْوَحْيُ وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُهَيْمِنُ الْأَمِينُ الْقُرْآنُ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ كِتَابٍ قَبْلَهُ

الشرح‏:‏

‏(‏باب فضائل نزل الوحي وأول ما نزل‏)‏ كذا لأبي ذر ‏"‏ نزل ‏"‏ بلفظ الفعل الماضي، ولغيره ‏"‏ كيف قوله‏:‏ ‏(‏باب كيف نزل الوحي وأول ما نزل‏)‏ كذا لأبي ذر ‏"‏ نزل ‏"‏ بلفظ الفعل الماضي، ولغيره ‏"‏ كيف نزول الوحي ‏"‏ بصيغة الجمع، وقد تقدم البحث في كيفية نزوله في حديث عائشة ‏"‏ إن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي ‏"‏ في أول الصحيح، وكذا أول نزوله في حديثها ‏"‏ أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ‏"‏ لكن التعبير بأول ما نزل أخص من التعبير بأول ما بدئ لأن النزول يقتضي وجود من ينزل به، وأول ذلك مجيء الملك له عيانا مبلغا عن الله بما شاء من الوحي، وإيحاء الوحي أعم من أن يكون بإنزال أو بإلهام، سواء وقع ذلك في النوم أو في اليقظة‏.‏

وأما انتزاع ذلك من أحاديث الباب فسأذكره إن شاء الله تعالى عند شرح كل حديث منها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن عباس‏:‏ المهيمن الأمين، القرآن أمين على كل كتاب قبله‏)‏ تقدم بيان هذا الأثر وذكر من وصله في تفسير سورة المائدة، وهو يتعلق بأصل الترجمة وهي فضائل القرآن، وتوجيه كلام ابن عباس أن القرآن تضمن تصديق جميع ما أنزل قبله، لأن الأحكام التي فيه إما مقررة لما سبق وإما ناسخة - وذلك يستدعي إثبات المنسوخ - وإما مجددة، وكل ذلك دال على تفضيل المجدد‏.‏

ثم ذكر المصنف في الباب ستة أحاديث‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا لَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ

الشرح‏:‏

الأول والثاني حديثا ابن عباس وعائشة معا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن شيبان‏)‏ هو ابن عبد الرحمن، ويحيى هو ابن أبي كثير، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين‏)‏ كذا للكشميهني، ولغيره ‏"‏ وبالمدينة عشرا ‏"‏ بإبهام المعدود، وهذا ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عاش ستين سنة إذا انضم إلى المشهور أنه بعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الراوي ألغى الكسر كما تقدم بيانه في الوفاة النبوية، فإن كل من روي عنه أنه عاش ستين أو أكثر من ثلاث وستين جاء عنه أنه عاش ثلاثا وستين، فالمعتمد أنه عاش ثلاثا وستين، وما يخالف ذلك إما أن يحمل على إلغاء الكسر في السنين، وإما على جبر الكسر في الشهور، وأما حديث الباب فيمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر، وهو أنه بعث على رأس الأربعين، فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع، فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة، أو أنه على رأس الأربعين قرن به ميكائيل أو إسرافيل فكان يلقي إليه الكلمة أو الشيء مدة ثلاث سنين كما جاء من وجه مرسل، ثم قرن به جبريل فكان ينزل عليه بالقرآن مدة عشر سنين بمكة‏.‏

ويؤخذ من هذا الحديث مما يتعلق بالترجمة أنه نزل مفرقا ولم ينزل جملة واحدة، ولعله أشار إلى ما أخرجه النسائي وأبو عبيد والحاكم من وجه آخر عن ابن عباس قال ‏"‏ أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة‏.‏

وقرأ ‏(‏وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث‏)‏ الآية ‏"‏ وفي رواية للحاكم والبيهقي في الدلائل ‏"‏ فرق في السنين ‏"‏ وفي أخرى صحيحة لابن أبي شيبة والحاكم أيضا ‏"‏ وضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ وإسناده صحيح، ووقع في ‏"‏ المنهاج للحليمي ‏"‏‏:‏ أن جبريل كان ينزل منه من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى السماء الدنيا قدر ما ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة إلى ليلة القدر التي تليها، إلى أن أنزله كله في عشرين ليلة من عشرين سنة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وهذا أورده ابن الأنباري من طريق ضعيفة ومنقطعة أيضا وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد وحكى الماوردي في تفسير ليلة القدر أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وهذا أيضا غريب، والمعتمد أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان بما ينزل به عليه في طول السنة، كذا جزم به الشعبي فيما أخرجه عنه أبو عبيد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وسيأتي مزيد لذلك بعد ثلاثة أبواب‏.‏

وقد تقدم في بدء الوحي أن أول نزول جبريل بالقرآن كان في شهر رمضان، وسيأتي في هذا الكتاب أن جبريل كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في شهر رمضان، وفي ذلك حكمتان‏:‏ إحداهما تعاهده، والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وأحكاما‏.‏

وقد أخرج أحمد والبيهقي في ‏"‏ الشعب ‏"‏ عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ أنزلت التوراة لست مضين من رمضان‏.‏

والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان‏"‏‏.‏

وهذا كله مطابق لقوله تعالى ‏(‏شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن‏)‏ ولقوله تعالى ‏(‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏)‏ فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول ‏(‏اقرأ باسم ربك‏)‏ ويستفاد من حديث الباب أن القرآن نزل كله بمكة والمدينة خاصة، وهو كذلك، لكن نزل كثير منه في غير الحرمين حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر حج أو عمرة أو غزاة، ولكن الاصطلاح أن كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل في البلد حال الإقامة أو في غيرها حال السفر، وسيأتي مزيد لذلك في ‏"‏ باب تأليف القرآن‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ سَلَمَةَ مَنْ هَذَا أَوْ كَمَا قَالَ قَالَتْ هَذَا دِحْيَةُ فَلَمَّا قَامَ قَالَتْ وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ أَوْ كَمَا قَالَ قَالَ أَبِي قُلْتُ لِأَبِي عُثْمَانَ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا قَالَ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا معتمر‏)‏ هو ابن سليمان التيمي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أنبئت أن جبريل‏)‏ فاعل ‏"‏ قال ‏"‏ هو أبو عثمان النهدي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أنبئت‏)‏ بضم أوله على البناء للمجهول، وقد عينه في آخر الحديث‏.‏

ووقع عند مسلم في أوله زيادة حذفها البخاري عمدا لكونها موقوفة ولعدم تعلقها بالباب وهي‏:‏ عن أبي عثمان عن سلمان قال ‏"‏ لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ‏"‏ الحديث موقوف، وقد أورده البرقاني في مستخرجه من طريق عاصم عن أبي عثمان عن سلمان مرفوعا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقال لأم سلمة‏:‏ من هذا‏)‏ ‏؟‏ فاعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، استفهم أم سلمة عن الذي كان يحدثه هل فطنت لكونه ملكا أو لا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أو كما قال‏)‏ يريد أن الراوي شك في اللفظ مع بقاء المعنى في ذهنه، وهذه الكلمة كثر استعمال المحدثين لها في مثل ذلك‏.‏

قال الداودي‏.‏

هذا السؤال إنما وقع بعد ذهاب جبريل، وظاهر سياق الحديث يخالفه‏.‏

كذا قال، ولم يظهر لي ما ادعاه من الظهور، بل هو محتمل للأمرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قالت هذا دحية‏)‏ أي ابن خليفة الكلبي الصحابي المشهور، وقد تقدم ذكره في حديث أبي سفيان الطويل في قصة هرقل أول الكتاب، وكان موصوفا بالجمال، وكان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم غالبا على صورته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فلما قام‏)‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم أي قام ذاهبا إلى المسجد، وهذا يدل على أنه لم ينكر عليها ما ظنته من أنه دحية اكتفاء بما سيقع منه في الخطبة مما يوضح لها المقصود‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما حسبته إلا إياه‏)‏ هذا كلام أبي سلمة، وعند مسلم ‏"‏ فقالت أم سلمة أيمن الله ما حسبته إلا إياه ‏"‏ وأيمن من حروف القسم، وفيها لغات قد تقدم بيانها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر جبريل أو كما قال‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ يخبرنا خبرنا ‏"‏ وهو تصحيف نبه عليه عياض، قال النووي‏:‏ وهو الموجود في نسخ بلادنا‏.‏

قلت‏:‏ ولم أر هذا الحديث في شيء من المسانيد إلا من هذا الطريق فهو من غرائب الصحيح‏.‏

ولم أقف في شيء من الروايات على بيان هذا الخبر في أي قصة، ويحتمل أن يكون في قصة بني قريظة، فقد وقع في ‏"‏ دلائل البيهقي ‏"‏ وفي ‏"‏ الغيلانيات ‏"‏ من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ‏"‏ عن عائشة أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم يكلم رجلا وهو راكب، فلما دخل قلت‏:‏ من هذا الذي كنت تكلمه، قال‏:‏ بمن تشبهينه‏؟‏ قلت‏:‏ بدحية بن خليفة، قال‏:‏ ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال أبي‏)‏ بفتح الهمزة وكسر الموحدة الخفيفة، والقائل هو معتمر بن سليمان، وقوله ‏"‏فقلت لأبي عثمان، أي النهدي الذي حدثه بالحديث، وقوله ‏"‏ممن سمعت هذا‏؟‏ قال من أسامة بن زيد ‏"‏ فيه الاستفسار عن اسم من أبهم من الرواة ولو كان الذي أبهم ثقة معتمدا، وفائدته احتمال أن لا يكون عند السامع كذلك، ففي بيانه رفع لهذا الاحتمال، قال عياض وغيره‏:‏ وفي هذا الحديث أن للملك أن يتصور على صورة الآدمي‏.‏

وأن له هو في ذاته صورة لا يستطيع الآدمي أن يراه فيها لضعف القوى البشرية إلا من يشاء الله أن يقويه على ذلك، ولهذا كان غالب ما يأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل كما تقدم في بدء الوحي ‏"‏ وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا ‏"‏ ولم ير جبريل على صورته التي خلق عليها إلا مرتين كما ثبت في الصحيحين‏.‏

ومن هنا يتبين وجه دخول حديث أسامة هذا في هذا الباب‏.‏

قالوا وقيه فضيلة لأم سلمة ولدحية، وفيه نظر، لأن أكثر الصحابة رأوا جبريل في صورة الرجل لما جاء فسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان، ولأن اتفاق الشبه لا يستلزم إثبات فضيلة معنوية، وغايته أن يكون له مزية في حسن الصورة حسب، وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن قطن حين قال إن الدجال أشبه الناس به فقال ‏"‏ أيضرني شبهه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏"‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أبيه‏)‏ هو أبو سعيد المقبري كيسان، وقد وقع سعيد المقبري الكثير من أبي هريرة وسمع من أبيه عن أبي هريرة، ووقع الأمران في الصحيحين، وهو دال على تثبت سعيد وتحريه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما من الأنبياء نبي إلا أعطى‏)‏ هذا دال على أن النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصر على المعاندة‏.‏

من الآيات‏)‏ أي المعجزات الخوارق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ما مثله آمن عليه البشر‏)‏ ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لأعطى، ومثله مبتدأ، وآمن خبره، والمثل يطلق ويراد به عين الشيء وما يساويه، والمعنى أن كل نبي أعطى آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها، وعليه بمعنى اللام أو الباء الموحدة، والنكتة في التعبير بها تضمنها معنى الغلبة، أي يؤمن بذلك مغلوبا عليه بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يجحد فيعاند، كما قال الله تعالى ‏(‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما‏)‏ وقال الطيبي‏:‏ الراجع إلى الموصول ضمير المجرور في عليه وهو حال، أي مغلوبا عليه في التحدي، والمراد بالآيات المعجزات وموقع المثل موقعه من قوله‏:‏ ‏(‏فأتوا بسورة مثله‏)‏ أي على صفته من البيان وعلو الطبقة في البلاغة‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قوله ‏"‏ آمن ‏"‏ وقع في رواية حكاها ابن قرقول ‏"‏ أومن ‏"‏ بضم الهمز ثم واو‏.‏

وسيأتي في كتاب الاعتصام‏.‏

قال وكتبها بعضهم‏.‏

بالياء الأخيرة بدل الواو‏.‏

وفي رواية القابسي ‏"‏ أمن ‏"‏ بغير مد من الأمان، والأول هو المعروف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي‏)‏ أي إن معجزتي التي تحديت بها الوحي الذي أنزل علي وهو القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه ولا أنه لم يؤت من المعجزات ما أوتي من تقدمه، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره، لأن كل نبي أعطي معجزة خاصة به لم يعطها بعينها غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه كما كان السحر فاشيا عند فرعون فجاءه موسى بالعصا على صورة ما يصنع السحرة لكنها تلقفت ما صنعوا، ولم يقع ذلك بعينه لغيره وكذلك إحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لكون الأطباء والحكماء كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم بما لم تصل قدرتهم إليه، ولهذا لما كان العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة جاءهم بالقرآن الذي تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك‏.‏

وقيل المراد أن القرآن ليس له مثل لا صورة ولا حقيقة، بخلاف غيره من المعجزات فإنها لا تخلو عن مثل‏.‏

وقيل المراد أن كل نبي أعطي من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله صورة أو حقيقة، والقرآن لم يؤت أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله ‏"‏ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا‏"‏‏.‏

وقيل المراد أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل، وإنما هو كلام معجز لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيل منه التشبيه به، بخلاف غيره فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يقدر الساحر أن يخيل شبهه فيحتاج من يميز بينهما إلى نظر، والنظر عرضة للخطأ، فقد يخطئ الناظر فيظن تساويهما‏.‏

وقيل المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه، وهذا أقوى المحتملات، وتكميله في الذي بعده‏.‏

وقيل المعنى أن المعجزات الماضية كانت حسية تشاهد بالأبصار كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزة القرآن تشاهد بالبصيرة فيكون من يتبعه لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا‏.‏

قلت‏:‏ ويمكن نظم هذه الأقوال كلها في كلام واحد؛ فإن محصلها لا ينافي بعضه بعضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة‏)‏ رتب هذا الكلام على ما تقدم من معجزة القرآن المستمرة لكثرة فائدته وعموم نفعه، لاشتماله على الدعوة والحجة والإخبار بما سيكون، فعم نفعه من حضر ومن غاب ومن وجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرجوى المذكورة على ذلك، وهذه الرجوى قد تحققت، فإنه أكثر الأنبياء تبعا، وسيأتي بيان ذلك واضحا في كتاب الرقاق إن شاء الله تعالى‏.‏

وتعلق هذا الحديث بالترجمة من جهة أن القرآن إنما نزل بالوحي الذي يأتي به الملك لا بالمنام ولا بالإلهام‏.‏

وقد جمع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء‏:‏ أحدها حسن تأليفه والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة، ثانيها صورة سياقه وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظما ونثرا حتى حارت فيه عقولهم ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء مثله مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك وتقريعه لهم على العجز عنه، ثالثها ما اشتمل عليه من الإخبار عما مضى من أحوال الأمم السالفة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه بعضه إلا النادر من أهل الكتاب، رابعها الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبوي وبعضها بعده‏.‏

ومن غير هذه الأربعة آيات وردت بتعجيز قوم في قضايا أنهم لا يفعلونها فعجزوا عنها مع توفر دواعيهم على تكذيبه، كتمني اليهود الموت، ومنها الروعة التي تحصل لسامعه، ومنها أن قارئه لا يمل من ترداده وسامعه لا يمجه ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طراوة ولذاذة‏.‏

ومنها أنه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، ومنها جمعه لعلوم ومعارف لا تنقضي عجائبها ولا تنتهي فوائدها‏.‏

ا ه ملخصا من كلام عياض، وغيره‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَابَعَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تَوَفَّاهُ أَكْثَرَ مَا كَانَ الْوَحْيُ ثُمَّ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا عمرو بن محمد‏)‏ هو الناقد، وبذلك جزم أبو نعيم في ‏"‏ المستخرج‏"‏‏.‏

وكذا أخرجه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وغيره عن يعقوب بن إبراهيم‏.‏

ووقع في الأطراف لخلف ‏"‏ حدثنا عمرو بن علي الفلاس ‏"‏ ورأيت في نسخة معتمدة من رواية النسفي عن البخاري ‏"‏ حدثنا عمرو بن خالد ‏"‏ وأظنه تصحيفا، والأول هو المعتمد، فإن الثلاثة وإن كانوا معروفين من شيوخ البخاري، لكن الناقد أخص من غيره بالرواية عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ورواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب من رواية الأقران، بل صالح بن كيسان أكبر سنا من ابن شهاب وأقدم سماعا، وإبراهيم بن سعد قد سمع من ابن شهاب كما سيأتي تصريحه بتحديثه له في الحديث الآتي بعد باب واحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن الله تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته‏)‏ كذا للأكثر‏.‏

وفي رواية أبي ذر ‏"‏ إن الله تابع على رسوله الوحي قبل وفاته ‏"‏ أي أكثر إنزاله قرب وفاته صلى الله عليه وسلم، والسر في ذلك أن الوفود بعد فتح مكة كثروا وكثر سؤالهم عن الأحكام فكثر النزول بسبب ذلك‏.‏

ووقع لي سبب تحديث أنس بذلك من رواية الدراوردي عن الإمامي عن الزهري ‏"‏ سألت أنس بن مالك‏:‏ هل فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت‏؟‏ قال‏:‏ أكثر ما كان وأجمه ‏"‏ أورده ابن يونس في ‏"‏ تاريخ مصر ‏"‏ في ترجمة محمد بن سعيد بن أبي مريم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى توفاه أكثر ما كان الوحي‏)‏ أي الزمان الذي وقعت فيه وفاته كان نزول الوحي فيه أكثر من غيره من الأزمنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد‏)‏ فيه إظهار ما تضمنته الغاية في قوله ‏"‏ حتى توفاه الله‏"‏، وهذا الذي وقع أخيرا على خلاف ما وقع أولا، فإن الوحي في أول البعثة فتر فترة ثم كثر، وفي أثناء النزول بمكة لم ينزل من السور الطوال إلا القليل، مما بعد الهجرة نزلت السور الطوال المشتملة على غالب الأحكام، إلا أنه كان الزمن الأخير من الحياة النبوية أكثر الأزمنة نزولا بالسبب المتقدم، وبهذا تظهر مناسبة هذا الحديث للترجمة لتضمنه الإشارة إلى كيفية النزول‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ يَا مُحَمَّدُ مَا أُرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا قَدْ تَرَكَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا سفيان‏)‏ هو الثوري، وقد تقدم شرح الحديث قريبا في سورة والضحى، ووجه إيراده في هذا الباب الإشارة إلى أن تأخير النزول أحيانا إنما كان يقع لحكمة تقتضي ذلك لا لقصد تركه أصلا، فكان نزوله على أنحاء شتى‏:‏ تارة يتتابع، وتارة يتراخى‏.‏

وفي إنزاله مفرقا وجوه من الحكمة‏:‏ منها تسهيل حفظه لأنه لو نزل جملة واحدة على أمة أمية لا يقرأ غالبهم ولا يكتب لشق عليهم حفظه‏.‏

وأشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله ردا على الكفار ‏(‏وقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك - أي أنزلناه مفرقا - لنثبت به فؤادك‏)‏ وبقوله تعالى ‏(‏وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث‏)‏ ‏.‏

ومنها ما يستلزمه من الشرف له والعناية به لكثرة تردد رسول ربه إليه يعلمه بأحكام ما يقع له وأجوبة ما يسأل عنه من الأحكام والحوادث‏.‏

ومنها أنه أنزل على سبعة أحرف، فناسب أن ينزل مفرقا، إذ لو نزل دفعة واحدة لشق بيانها عادة‏.‏

ومنها أن الله قدر أن ينسخ من أحكامه ما شاء، فكان إنزاله مفرقا لينفصل الناسخ من المنسوخ أولى من إنزالهما معا‏.‏

وقد ضبط النقلة ترتيب نزول السور كما سيأتي

*3*باب نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى قُرْآنًا عَرَبِيًّا بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، قرآنا عربيا - بلسان عربي مبين‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ لقول الله تعالى قرآنا إلخ‏.‏

وأما نزوله بلغة قريش فمذكور في الباب من قول عثمان، وقد أخرج أبو داود من طريق كعب الأنصاري أن عمر كتب إلى ابن مسعود ‏"‏ أن القرآن نزل بلسان قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش لا بلغة هذيل ‏"‏ وأما عطف العرب عليه فمن عطف العام على الخاص، لأن قريشا من العرب، وأما ما ذكره من الآيتين فهو حجة لذلك‏.‏

وقد أخرج ابن أبي دواد في ‏"‏ المصاحف ‏"‏ من طريق أخرى عن عمر قال ‏"‏ إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلسان مضر ‏"‏ ا ه ومضر هو ابن نزار بن معد بن عدنان وإليه تنتهي أنساب قريش وقيس وهذيل وغيرهم‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن الباقلاني‏:‏ معنى قول عثمان ‏"‏ نزل القرآن بلسان قريش ‏"‏ أي معظمه، وأنه لم تقم دلالة قاطعة على أن جميعه بلسان قريش، فإن ظاهر قوله تعالى ‏(‏إنا جعلناه قرآنا عربيا‏)‏ أنه نزل بجميع ألسنة العرب، ومن زعم أنه أراد مضر دون ربيعة أو هما دون اليمن أو قريشا دون غيرهم فعليه البيان، لأن اسم العرب يتناول الجميع تناولا واحدا، ولو ساغت هذه الدعوى لساغ للآخر أن يقول نزل بلسان بني هاشم مثلا لأنهم أقرب نسبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من سائر قريش‏.‏

وقال أبو شامة‏:‏ يحتمل أن يكون قوله ‏"‏ نزل بلسان قريش ‏"‏ أي ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم كما سيأتي تقريره في ‏"‏ باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ‏"‏ ا ه‏.‏

وتكملته أن يقال‏:‏ أنه نزل أولا بلسان قريش أحد الأحرف السبعة ثم نزل بالأحرف السبعة المأذون في قراءتها تسهيلا وتيسيرا كما سيأتي بيانه، فلما جمع عثمان الناس على حرف واحد رأى أن الحرف الذي نزل القرآن أولا بلسانه أولى الأحرف فحمل الناس عليه لكونه لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولما له من الأولية المذكورة وعليه يحمل كلام عمر لابن مسعود أيضا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ لَهُمْ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأخبرني‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ فأخبرني أنس بن مالك قال فأمر عثمان ‏"‏ هو معطوف على شيء محذوف يأتي بيانه في الباب الذي بعده، فاقتصر المصنف من الحديث على موضع الحاجة منه وهو قول عثمان ‏"‏ فاكتبوه بلسانهم ‏"‏ أي قريش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن ينسخوها في المصاحف‏)‏ كذا للأكثر، والضمير للسور أو للآيات أو الصحف التي أحضرت من بيت حفصة، وللكشميهني ‏"‏ أن ينسخوا ما في المصاحف ‏"‏ أي ينقلوا الذي فيها إلى مصاحف أخرى، والأول هو المعتمد لأنه كان في صحف لا مصاحف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ وَقَالَ مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ عَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أَظَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ بَعْدَ مَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً فَجَاءَهُ الْوَحْيُ فَأَشَارَ عُمَرُ إِلَى يَعْلَى أَنْ تَعَالَ فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَجِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مسدد حدثنا يحيى‏)‏ في رواية أبي ذر ‏"‏ يحيى بن سعيد ‏"‏ وهو القطان، وهذا الحديث وقع لنا موصولا في رواية مسدد من رواية معاذ بن المثنى عنه كما بينته في ‏"‏ تعليق التعليق‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إن يعلى‏)‏ هو ابن أمية والد صفوان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏كان يقول‏:‏ ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ‏)‏ هذا صورته مرسل، لأن صفوان بن يعلى ما حضر القصة، وقد أورده في كتاب العمرة من كتاب الحح بالإسناد الآخر المذكور هنا عن أبي نعيم عن همام فقال فيه ‏"‏ عن صفوان بن يعلى عن أبيه ‏"‏ فوضح أنه ساقه هنا على لفظ رواية ابن جريج، وقد أخرجه أبو نعيم من طريق محمد بن خلاد عن يحيى بن سعيد بنحو اللفظ الذي ساقه المصنف هنا، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الحج‏.‏

وقد خفي وجه دخوله في هذا الباب على كثير من الأئمة حتى قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ ذكر هذا الحديث في الترجمة التي قبل هذه أظهر وأبين، فلعل ذلك وقع من بعض النساخ‏.‏

وقيل بل أشار المصنف بذلك إلى أن قوله تعالى ‏(‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏)‏ لا يستلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بلسان قريش فقط لكونهم قومه، بل أرسل بلسان جميع العرب لأنه أرسل إليهم كلهم، بدليل أنه خاطب الأعرابي الذي سأله بما يفهمه بعد أن نزل الوحي عليه بجواب مسألته فدل على أن الوحي كان ينزل عليه بما يفهمه السائل من العرب قرشيا كان أو غير قرشي، والوحي أعم من أن يكون قرآنا يتلى أو لا يتلى‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ مناسبة الحديث للترجمة أن الوحي كله متلو كان أو غير متلو إنما نزل بلسان العرب، ولا يرد على هذا كونه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة عربا وعجما وغيرهم لأن اللسان الذي نزل عليه به الوحي عربي وهو يبلغه إلى طوائف العرب وهم يترجمونه لغير العرب بألسنتهم، ولذا قال ابن المنير‏:‏ كان إدخال هذا الحديث في الباب الذي قبله أليق، لكن لعله قصد التنبيه على أن الوحي بالقرآن والسنة كان على صفة واحدة ولسان واحد

*3*باب جَمْعِ الْقُرْآنِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب جمع القرآن‏)‏ المراد بالجمع هنا جمع مخصوص، وهو جمع متفرقة في صحف، ثم جمع تلك الصحف في مصحف واحد مرتب السور‏.‏

وسيأتي بعد ثلاثة أبواب ‏"‏ باب تأليف القرآن ‏"‏ والمراد به هناك تأليف الآيات في السورة الواحدة أو ترتيب السور في المصحف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ لِعُمَرَ كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ قَالَ زَيْدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ قُلْتُ كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن عبيد بن السباق‏)‏ بفتح المهملة وتشديد الموحدة، مدني يكنى أبا سعيد، ذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين، لكن لم أر له رواية عن أقدم من سهل بن حنيف الذي مات في خلافة علي، وحديثه عنه عند أبي داود وغيره، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، لكنه كرره في التفسير والأحكام والتوحيد وغيرها مطولا ومختصرا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن زيد بن ثابت‏)‏ هذا هو الصحيح عن الزهري أن قصة زيد بن ثابت مع أبي بكر وعمر عن عبيد ابن السباق عن زيد بن ثابت، وقصة حذيفة مع عثمان عن أنس بن مالك، وقصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وقد رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الزهري فأدرج قصة آية سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق، وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال ‏"‏ عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه ‏"‏ وساق القصص الثلاث بطولها‏:‏ قصة زيد مع أبي بكر وعمر؛ ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب أخرجه الطبري، وبين الخطيب في ‏"‏ المدرج ‏"‏ أن ذلك وهم منه وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أرسل إلي أبو بكر الصديق‏)‏ لم أقف على اسم الرسول إليه بذلك، وروينا في الجزء الأول من ‏"‏ فوائد الدير عاقولي ‏"‏ قال ‏"‏ حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال‏:‏ قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏مقتل أهل اليمامة‏)‏ أي عقب قتل أهل اليمامة‏.‏

والمراد بأهل اليمامة هنا من قتل بها من الصحابة في الوقعة مع مسيلمة الكذاب، وكان من شأنها أن مسيلمة ادعى النبوة وقوي أمره بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بارتداد كثير من العرب، فجهز إليه أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جمع كثير من الصحابة فحاربوه أشد محاربة، إلى أن خذله الله وقتله، وقتل في غضون ذلك من الصحابة جماعة كثيرة قيل سبعمائة وقيل أكثر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قد استحر‏)‏ بسين مهملة ساكنة ومثناة مفتوحة بعدها حاء مهملة مفتوحة ثم راء ثقيلة، أي اشتد وكثر، وهو استفعل من الحر لأنه المكروه غالبا يضاف إلى الحر، كما أن المحبوب يضاف إلى البرد يقولون‏:‏ أسخن الله عينه وأقر عينه‏.‏

ووقع من تسمية القراء الذين أراد عمر في رواية سفيان بن عيينة المذكورة قتل سالم مولى أبي حذيفة ولفظه ‏"‏ فلما قتل سالم مولى أبي حذيفة خشي عمر أن يذهب القرآن، فجاء إلى أبي بكر ‏"‏ وسيأتي أن سالما أحد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏بالقراء بالمواطن‏)‏ أي في المواطن أي الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار، ووقع في رواية شعيب عن الزهري ‏"‏ في المواطن ‏"‏ وفي رواية سفيان ‏"‏ وأنا أخشى أن لا يلقى المسلمون زحفا آخر إلا استحر القتل بأهل القرآن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيذهب كثير من القرآن‏)‏ في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه من الزيادة ‏"‏ إلا أن يجمعوه ‏"‏ وفي رواية شعيب ‏"‏ قبل أن يقتل الباقون ‏"‏ وهذا يدل على أن كثيرا ممن قتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أن مجموعهم جمعه لا أن كل فرد جمعه، وسيأتي مزيد بيان لذلك في ‏"‏ باب من جمع القرآن ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قلت لعمر‏)‏ هو خطاب أبي بكر لعمر، حكاه ثانيا لزيد بن ثابت لما أرسل إليه، وهو كلام من يؤثر الاتباع وينفر من الابتداع‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ تقدم من رواية سفيان بن عيينة تصريح زيد بن ثابت‏.‏

بذلك‏.‏

وفي رواية عمارة بن غزية ‏"‏ فنفر منها أبو بكر وقال‏:‏ أفعل ما لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏‏؟‏ وقال الخطابي وغيره‏:‏ يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمع القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء لوعد الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة المحمدية زادها الله شرفا، فكان ابتداء ذلك على يد الصديق رضي الله عنه بمشورة عمر، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي داود في ‏"‏ المصاحف ‏"‏ بإسناد حسن عن عبد خير قال ‏"‏ سمعت عليا يقول‏:‏ أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله ‏"‏ وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ‏"‏ الحديث فلا ينافي ذلك، لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة، وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور، وأما ما أخرجه ابن أبي داود في ‏"‏ المصاحف ‏"‏ من طريق ابن سيرين قال ‏"‏ قال علي‏:‏ لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا آخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعه ‏"‏ فإسناده ضعيف لانقطاعه، وعلى تقدير أن يكون محفوظا فمراده بجمعه حفظه في صدره، قال‏:‏ والذي وقع في بعض طرقه ‏"‏ حتى جمعته بين اللوحين ‏"‏ وهم من راويه‏.‏

قلت‏:‏ وما تقدم من رواية عبد خير عن علي أصح، فهو المعتمد‏.‏

ووقع عند ابن أبي داود أيضا بيان السبب في إشارة عمر بن الخطاب بذلك، فأخرج من طريق الحسن ‏"‏ أن عمر سأل عن آية من كتاب الله فقيل‏:‏ كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال‏:‏ إنا لله، وأمر بجمع القرآن، فكان أول من جمعه في المصحف ‏"‏ وهذا منقطع، فإن كان محفوظا حمل على أن المراد بقوله ‏"‏ فكان أول من جمعه ‏"‏ أي أشار بجمعه في خلافة أبي بكر فنسب الجمع إليه لذلك‏.‏

وقد تسول لبعض الروافض أنه يتوجه الاعتراض على أبي بكر بما فعله من جمع القرآن في المصحف فقال‏:‏ كيف جاز أن يفعل شيئا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام‏؟‏ والجواب أنه لم يفعل ذلك إلا بطريق الاجتهاد السائغ الناشئ عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أذن في كتابة القرآن ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلا بكتابة ما كان مكتوبا، ولذلك توقف عن كتابة الآية من آخر سورة براءة حتى وجدها مكتوبة، مع أنه كان يستحضرها هو ومن ذكر معه‏.‏

وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد في فضائله وينوه بعظيم منقبته، لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ‏"‏ فما جمع القرآن أحد بعده إلا وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة‏.‏

وقد كان لأبي بكر من الاعتناء بقراءة القرآن ما اختار معه أن يرد على ابن الدغنة جواره ويرضى بجوار الله ورسوله، وقد تقدمت القصة مبسوطة في فضائله، وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله‏:‏ ‏(‏يتلو صحفا مطهرة‏)‏ الآية، وكان القرآن مكتوبا في الصحف، لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها فنسخ منها عدة مصاحف وأرسل بها إلى الأمصار، كما سيأتي بيان ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال زيد‏)‏ أي ابن ثابت ‏(‏قال أبو بكر‏)‏ أي قال لي ‏(‏إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي‏)‏ ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك‏:‏ كونه شابا فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلا فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له‏.‏

وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة‏.‏

وقال ابن بطال عن المهلب‏:‏ هذا يدل على أن العقل أصل الخصال المحمودة لأنه لم يصف زيدا بأكثر من العقل وجعله سببا لائتمانه ورفع التهمة عنه، كذا قال وفيه نظر، وسيأتي مزيد البحث فيه في كتاب الأحكـام إن شاء الله تعالى‏.‏

ووقع في رواية سفيان بن عيينة ‏"‏ فقال أبو بكر، أما إذا عزمت على هذا فأرسل إلى زيد بن ثابت فادعه، فإنه كان شابا حدثا نقيا يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فادعه حتى يجمعه معنا‏.‏

قال زيد بن ثابت‏:‏ فأرسلا إلي فأتيتهما، فقالا لي‏:‏ إنا نريد أن نجمع القرآن في شيء، فاجمعه معنا‏.‏

وفي رواية عمارة بن غزية ‏"‏ فقال لي أبو بكر‏:‏ إن هذا دعاني إلى أمر، وأنت كاتب الوحي، فإن تك معه اتبعتكما، وإن توافقني لا أفعل ‏"‏ فاقتضى قول عمر - فنفرت من ذلك، فقال عمر، كلمه وما عليكما لو فعلتما، قال فنظرنا فقلنا‏:‏ لا شيء والله، ما علينا‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ إنما نفر أبو بكر أولا ثم زيد بن ثابت ثانيا لأنهما لم يجدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول فلما نبههما عمر على فائدة ذلك وأنه خشية أن يتغير الحال في المستقبل إذا لم يجمع القرآن فيصير إلى حالة الخفاء بعد الشهرة، رجعا إليه‏.‏

قال‏:‏ ودل ذلك على أن فعل الرسول إذا تجرد عن القرائن - وكذا تركه - لا يدل على وجوب ولا تحريم انتهى‏.‏

وليس ذلك من الزيادة على احتياط الرسول، بل هو مستمد من القواعد التي مهدها الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن الباقلاني‏:‏ كان الذي فعله أبو بكر من ذلك فرض كفاية، بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ‏"‏ مع قوله تعالى ‏(‏إن علينا جمعه وقرآنه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن هذا لفي الصحف الأولى‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏رسول من الله يتلو صحفا مطهرة‏)‏ قال‏:‏ فكل أمر يرجع لإحصائه وحفظه فهو واجب على الكفاية، وكان ذلك من النصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم‏.‏

قال‏:‏ وقد فهم عمر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمعه لا دلالة فيه على المنع، ورجع إليه أبو بكر لما رأى وجه الإصابة في ذلك، وأنه ليس في المنقول ولا في المعقول ما ينافيه، وما يترتب على ترك جمعه من ضياع بعضه، ثم تابعهما زيد بن ثابت وسائر الصحابة على تصويب ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به‏)‏ كأنه جمع أولا باعتبار أبي بكر ومن وافقه، وأفرد باعتبار أنه الآمر وحده بذلك‏.‏

ووقع في رواية شعيب عن الزهري ‏"‏ لو كلفني ‏"‏ بالإفراد أيضا، وإنما قال زيد بن ثابت ذلك لما خشيه من التقصير في إحصاء ما أمر بجمعه، لكن الله تعالى يسر له ذلك كما قال تعالى ‏(‏ولقد يسرنا القرآن للذكر‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فتتبعت القرآن أجمعه‏)‏ أي من الأشياء التي عندي وعند غيري‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏من العسب‏)‏ بضم المهملتين ثم موحدة جمع عسيب وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض‏.‏

وقيل العسيب طرف الجريدة العريض الذي لم ينبت عليه الخوص، والذي ينبت عليه الخوص هو السعف‏.‏

ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن شهاب ‏"‏ القصب والعسب والكرانيف وجرائد النخل ‏"‏ ووقع في رواية شعيب ‏"‏ من الرقاع ‏"‏ جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد‏.‏

وفي رواية عمار ابن غزية ‏"‏ وقطع الأديم ‏"‏ وفي رواية ابن أبي داود من طريق أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد ‏"‏ والصحف‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏واللخاف‏)‏ بكسر اللام ثم خاء معجمة خفيفة وآخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون المعجمة، ووقع في رواية أبي داود الطيالسي عن إبراهيم بن سعد ‏"‏ واللخف ‏"‏ بضمتين وفي آخره فاء، قال أبو داود الطيالسي في روايته‏:‏ هي الحجارة الرقاق‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ صفائح الحجارة الرقاق‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ فيها عرض ودقة‏.‏

وسيأتي للمصنف في الأحكام عن أبي ثابت أحد شيوخه أنه فسره بالخزف بفتح المعجمة والزاي ثم فاء وهي الآنية التي تصنع من الطين المشوي‏.‏

ووقع في رواية شعيب ‏"‏ والأكتاف ‏"‏ جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة، كانوا إذا جف كتبوا فيه‏.‏

وفي رواية عمارة بن غزية ‏"‏ وكسر الأكتاف ‏"‏ وفي رواية ابن مجمع عن ابن شهاب عند ابن أبي داود ‏"‏ والأضلاع ‏"‏ وعنده من وجه آخر ‏"‏ والأقتاب ‏"‏ بقاف ومثناة وآخره موحدة جمع قتب بفتحتين وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه، وعند ابن أبي داود أيضا في ‏"‏ المصاحف ‏"‏ من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال ‏"‏ قام عمر فقال‏:‏ من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأت به‏.‏

وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعسب قال وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شاهدان ‏"‏ وهذا يدل على أن زيدا كان لا يكتفي بمجرد وجدانه مكتوبا حتى يشهد به من تلقاه سماعا؛ مع كون زيد كان يحفظه، وكان يفعل ذلك مبالغة في الاحتياط‏.‏

وعند ابن أبي داود أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه ‏"‏ أن أبا بكر قال لعمر ولزيد‏:‏ اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه ‏"‏ ورجاله ثقات مع انقطاعه، وكأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنهما يشهدان على أن ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن‏.‏

وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم لا من مجرد الحفظ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وصدور الرجال‏)‏ أي حيث لا أجد ذلك مكتوبا‏.‏

أو الواو بمعنى مع أي أكتبه من المكتوب الموافق للمحفوظ في الصدر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري‏)‏ وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد ‏"‏ مع خزيمة بن ثابت ‏"‏ أخرجه أحمد والترمذي‏.‏

ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدم في سورة التوبة ‏"‏ مع خزيمة الأنصاري ‏"‏ وقد أخرجه الطبراني في ‏"‏ مسند الشاميين ‏"‏ من طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه ‏"‏ خزيمة بن ثابت الأنصاري ‏"‏ وكذا أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب، وقول من قال عن إبراهيم بن سعد ‏"‏ مع أبي خزيمة ‏"‏ أصح، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة وأن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب، فالأول اختلف الرواة فيه على الزهري، فمن قائل ‏"‏ مع خزيمة ‏"‏ ومن قائل ‏"‏ مع أبي خزيمة ‏"‏ ومن شاك فيه يقول ‏"‏ خزيمة أو أبي خزيمة ‏"‏ والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة‏.‏

وأبو خزيمة قيل هو ابن أوس بن يزيد بن أصرم مشهور بكنيته دون اسمه، وقيل هو الحارث بن خزيمة، وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين كما تقدم صريحا في سورة الأحزاب‏.‏

وأخرج ابن أبي داود من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد ابن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال ‏"‏ أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين، من آخر سورة براءة فقال‏:‏ أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما، فقال عمر‏:‏ وأنا أشهد لقد سمعتهما‏.‏

ثم قال‏:‏ لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فألحقوها في آخرها ‏"‏ فهذا إن كان محفوظا احتمل أن يكون قول زيد بن ثابت ‏"‏ وجدتها مع أبي خزيمة لم أجدها مع غيره ‏"‏ أي أول ما كتبت، ثم جاء الحارث بن خزيمة بعد ذلك، أو أن أبا خزيمة هو الحارث بن خزيمة لا ابن أوس‏.‏

وأما قول عمر ‏"‏ لو كانت ثلاث آيات ‏"‏ فظاهره أنهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم، وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك إلا بتوقيف‏.‏

نعم ترتيب السور بعضها إثر بعض كان يقع بعضه منهم بالاجتهاد كما سيأتي في ‏"‏ باب تأليف القرآن‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم أجدها مع أحد غيره‏)‏ أي مكتوبة، لما تقدم من أنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة‏.‏

ولا يلزم من عدم وجدانه إياها حينئذ أن لا تكون تواترت عند من لم يتلقها من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان زيد يطلب التثبت عمن تلقاها بغير واسطة، ولعلهم لما وجدها زيد عند أبي خزيمة تذكروها كما تذكرها زيد‏.‏

وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار، والوقوف عندما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الخطابي‏:‏ هذا مما يخفى معناه‏.‏

ويوهم أنه كان يكتفي في إثبات الآية بخبر الشخص الواحد، وليس كذلك، فقد اجتمع في هذه الآية زيد بن ثابت وأبو خزيمة وعمر‏.‏

وحكى ابن التين عن الداودي قال‏:‏ لم يتفرد بها أبو خزيمة، بل شاركه زيد ابن ثابت، فعلى هذا تثبت برجلين ا ه‏.‏

وكأنه ظن أن قولهم لا يثبت القرآن بخبر الواحد أي الشخص الواحد، وليس كما ظن، بل المراد بخبر الواحد خلاف الخبر المتواتر، فلو بلغت رواة الخبر عددا كثيرا وفقد شيئا من شروط المتواتر لم يخرج عن كونه خبر الواحد‏.‏

والحق أن المراد بالنفي نفي وجودها مكتوبة، لا نفي كونها محفوظة‏.‏

وقد وقع عند ابن أبي داود من رواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ‏"‏ فجاء خزيمة بن ثابت فقال‏:‏ إني رأيتكم تركتم آيتين فلم تكتبوهما‏.‏

قالوا‏:‏ وما هما‏؟‏ قال‏:‏ تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏)‏ إلى آخر السورة، فقال عثمان‏:‏ وأنا أشهد، فكيف ترى أن تجعلهما‏؟‏ قال‏:‏ أختم بهما آخر ما نزل من القرآن ‏"‏ ومن طريق أبي العالية أنهم لما جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر كان الذي يملى عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا من براءة إلى قوله‏:‏ ‏(‏لا يفقهون‏)‏ ظنوا أن هذا آخر ما نزل منها، فقال أبي بن كعب‏:‏ أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم آيتين بعدهن ‏(‏لقد جاءكم رسول من أنفسكم‏)‏ إلى آخر السورة‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فكانت الصحف‏)‏ أي التي جمعها زيد بن ثابت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عند أبي بكر حتى توفاه الله‏)‏ في ‏"‏ موطأ ابن وهب ‏"‏ عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال ‏"‏ جمع أبو بكر القرآن في قراطيس، وكان سأل زيد بن ثابت في ذلك فأبى حتى استعان عليه بعمر ففعل وعند ‏"‏ موسى بن عقبة في المغازي ‏"‏ عن ابن شهاب قال ‏"‏ لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يهلك من القراء طائفة، فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم، حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف ‏"‏ وهذا كله أصح مما وقع في رواية عمارة بن غزية ‏"‏ أن زيد بن ثابت قال‏:‏ فأمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب، فلما هلك أبو بكر وكان عمر كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده ‏"‏ وإنما كان في الأديم والعسب أولا قبل أن يجمع في عهد أبي بكر، ثم جمع في الصحف في عهد أبي بكر كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المترادفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم عند حفصة بنت عمر‏)‏ أي بعد عمر في خلافة عثمان، إلى أن شرع عثمان في كتابة المصحف‏.‏

وإنما كان ذلك عند حفصة لأنها كانت وصية عمر، فاستمر ما كان عنده عندها حتى طلبه منها من له طلب ذلك‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا موسى‏)‏ هو ابن إسماعيل، وإبراهيم هو ابن سعد، وهذا الإسناد إلى ابن شهاب هو الذي قبله بعينه، أعاده إشارة إلى أنهما حديثان لابن شهاب في قصتين مختلفتين وإن اتفقتا في كتابة القرآن وجمعه‏.‏

وعن ابن شهاب قصة ثالثة كما بيناه عن خارجة بن زيد عن أبيه في قصة الآية التي من الأحزاب وقد ذكرها في آخر هذه القصة الثانية هنا‏.‏

وقد أخرجه المصنف من طريق شعيب عن ابن شهاب مفرقا، فأخرج القصة الأولى في تفسير التوبة‏.‏

وأخرج الثانية قبل هذا بباب لكن باختصار‏.‏

وأخرجها الطبراني في ‏"‏ مسند الشاميين ‏"‏ وابن أبي داود في ‏"‏ المصاحف ‏"‏ والخطيب في ‏"‏ المدرج ‏"‏ من طريق أبي اليمان بتمامه‏.‏

وأخرج المصنف الثالثة في تفسير سورة الأحزاب كما تقدم‏.‏

قال الخطيب‏:‏ روى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب القصص الثلاث، ثم ساقها من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب مساقا واحدا مفصلا للأسانيد المذكورة، قال وروى القصص الثلاث شعيب عن ابن شهاب، وروى قصة آخر التوبة مفردا يونس بن يزيد‏.‏

قلت‏:‏ وروايته تأتي عقب هذا باختصار‏.‏

وقد أخرجها ابن أبي داود من وجه آخر عن يونس مطولة، وفاته رواية سفيان بن عيينة لها عن ابن شهاب أيضا، وقد بينت ذلك قبل قال‏:‏ وروى قصة آية الأحزاب معمر وهشام بن الغاز ومعاوية بن يحيى ثلاثتهم عن ابن شهاب ثم ساقها عنهم‏.‏

قلت‏:‏ وفاته رواية ابن أبي عتيق لها عن ابن شهاب وهي عند المصنف في الجهاد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه‏)‏ في رواية يونس عن ابن شهاب ‏"‏ ثم أخبرني أنس بن مالك‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق‏)‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ في أهل العراق ‏"‏ والمراد أن أرمينية فتحت في خلافة عثمان، وكان أمير العسكر من أهل العراق سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان عثمان أمر أهل الشام وأهل العراق أن يجتمعوا على ذلك، وكان أمير أهل الشام على ذلك العسكر حبيب بن مسلمة الفهري، وكان حذيفة من جملة من غزا معهم، وكان هو على أهل المدائن وهي من جملة أعمال العراق‏.‏

ووقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد ‏"‏ وكان يغازي أهل الشام في فرج أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ‏"‏ قال ابن أبي دواد‏:‏ الفرج الثغر‏.‏

وفي رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه ‏"‏ أن حذيفة قدم على عثمان وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية في غزوهم ذلك الفرج مع من اجتمع من أهل العراق وأهل الشام‏.‏

وفي رواية يونس بن يزيد ‏"‏ اجتمع لغزو أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق‏"‏‏.‏

وأرمينية بفتح الهمزة عند ابن السمعاني وبكسرها عند غيره، وبه جزم الجواليقي وتبعه ابن الصلاح ثم النووي‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ من ضمها فقد غلط، وبسكون الراء وكسر الميم بعدها تحتانية ساكنة ثم نون مكسورة ثم تحتانية مفتوحة خفيفة وقد تثقل قاله ياقوت، والنسبة إليها أرمني بفتح الهمزة ضبطها الجوهري‏.‏

وقال ابن قرقول‏:‏ بالتخفيف لا غير، وحكى ضم الهمزة وغلط‏.‏

وإنما المضموم همزتها أرمية والنسبة إليها أرموي وهي بلدة أخرى من بلاد أذربيجان، وأما أرمينية فهي مدينة عظيمة من نواحي خلاط‏.‏

ومد الأصيلي والمهلب أوله وزاد المهلب الدال وكسر الراء وتقديم الموحدة، تشتمل على بلاد كثيرة، وهي من ناحية الشمال‏.‏

قال ابن السمعاني‏:‏ هي من جهة بلاد الروم يضرب بحسنها وطيب هوائها وكثرة مائها وشجرها المثل‏.‏

وقيل إنها من بناء أرمين من ولد يافث بن نوح، وأذربيجان بفتح الهمزة والذال المعجمة وسكون الراء، وقيل بسكون الذال وفتح الراء وبكسر الموحدة بعدها تحتانية ساكنة ثم جيم خفيفة وآخره نون، وحكى ابن مكي كسر أوله، وضبطها صاحب ‏"‏ المطالع ‏"‏ ونقله عن ابن الأعرابي بسكون الذال وفتح الراء بلد كبير من نواحي جبال العراق غربي وهي الآن تبريز وقصباتها، وهي تلي أرمينية من جهة غربيها، واتفق غزوهما في سنة واحدة، واجتمع في غزوة كل منهما أهل الشام وأهل العراق، والذي ذكرته الأشهر في ضبطها، وقد تمد الهمزة وقد تكسر وقد تحذف وقد تفتح الموحدة وقد يزاد بعدها ألف مع مد الأولى حكاه الهجري وأنكره الجواليقي، ويؤكده أنهم نسبوا إليها آذري بالمد اقتصارا على الركن الأول كما قالوا في النسبة إلى بعلبك بعلى، وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان‏.‏

وقد أخرج ابن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال ‏"‏ خطب عثمان فقال‏:‏ يا أيها الناس، إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القراءة ‏"‏ الحديث في جمع القرآن، وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر، فإن كان قوله ‏"‏ خمس عشرة سنة ‏"‏ أي كاملة فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته، لكن وقع في رواية أخرى له ‏"‏ منذ ثلاث عشرة سنة ‏"‏ فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته، فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وذلك في أول ولاية الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة من قبل عثمان‏.‏

وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين ولم يذكر لذلك مستندا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة‏)‏ في رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه ‏"‏ فيتنازعون في القرآن، حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره ‏"‏ وفي رواية يونس ‏"‏ فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة‏"‏‏.‏

وفي رواية عمارة بن غزية أن حذيفة قدم من غزوة فلم يدخل بيته حتى أتى عثمان فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أدرك الناس، قال‏.‏

وما ذاك‏؟‏ قال‏:‏ غزوت فرج أرمينية، فإذا أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضا‏"‏‏.‏

وأخرج ابن أبي داود أيضا من طريق يزيد بن معاوية النخعي قال ‏"‏ إني لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة فسمع رجلا يقول قراءة عبد الله بن مسعود، وسمع آخر يقول قراءة أبي موسى الأشعري، فغضب ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ هكذا كان من قبلكم اختلفوا، والله لأركبن إلى أمير المؤمنين ‏"‏ ومن طريق أخرى عنه ‏"‏ أن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة، قرأ هذا ‏(‏وأتموا الحج والعمرة لله‏)‏ وقرأ هذا ‏(‏وأتموا الحج والعمرة للبيت‏)‏ فغضب حذيفة واحمرت عيناه ‏"‏ ومن طريق أبي الشعثاء قال ‏"‏ قال حذيفة يقول أهل الكوفة قراءة ابن مسعود، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى، والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنه أن يجعلها قراءة واحدة ‏"‏ ومن طريق أخرى أن ابن مسعود قال لحذيفة‏:‏ بلغني عنك كذا، قال‏:‏ نعم كرهت أن يقال قراءة فلان وقراءة فلان فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب‏.‏

وهذه القصة لحذيفة يظهر لي أنها متقدمة على القصة التي وقعت له في القراءة، فكأنه لما رأى الاختلاف أيضا بين أهل الشام والعراق اشتد خوفه فركب إلى عثمان وصادف أن عثمان أيضا كان وقع له نحو ذلك، فأخرج ابن أبي داود أيضا في ‏"‏ المصاحف ‏"‏ من طريق أبي قلابة قال ‏"‏ لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يتلقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين حتى كفر بعضهم بعضا، فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال‏:‏ أنتم عندي تختلفون، فمن نأي عني من الأمصار أشد اختلافا‏.‏

فكأنه والله أعلم لما جاءه حذيفة وأعلمه باختلاف أهل الأمصار تحقق عنده ما ظنه من ذلك‏.‏

وفي رواية مصعب بن سعد ‏"‏ فقال عثمان‏:‏ تمترون في القرآن، تقولون قراءة أبي قراءة عبد الله، ويقول الآخر والله ما تقيم قراءتك ‏"‏ ومن طريق محمد بن سيرين قال‏:‏ كان الرجل يقرأ حتى يقول الرجل لصاحبه كفرت بما تقول، فرفع ذلك إلى عثمان فتعاظم في نفسه‏.‏

وعند ابن أبي داود أيضا من رواية بكير بن الأشج‏:‏ أن ناسا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية فإذا قرأها قال‏:‏ إلا أني أكفر بهذه، ففشا ذلك في الناس، فكلم عثمان في ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف‏)‏ في رواية يونس بن يزيد ‏"‏ فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها فنسخ منها مصاحف فبعث بها إلى الآفاق ‏"‏ والفرق بين الصحف والمصحف أن الصحف الأوراق المجردة التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر، وكانت سور مفرقة كل سورة مرتبة بآياتها على حدة لكن لم يرتب بعضها إثر بعض، فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفا، وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال ‏"‏ قال علي‏:‏ لا تقولوا في عثمان إلا خيرا‏.‏

فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا ‏"‏ قال ما تقولون في هذه القراءة‏؟‏ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك وهذا يكاد أن يكون كفرا، قلنا‏:‏ فما ترى‏؟‏ قال‏:‏ أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف‏.‏

قلنا‏:‏ فنعم ما رأيت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف‏)‏ وعند ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين قال ‏"‏ جمع عثمان اثنى عشر رجلا من قريش والأنصار منهم أبي بن كعب، وأرسل إلى الرقعة التي في بيت عمر، قال فحدثني كثير بن أفلح وكان ممن يكتب قال‏:‏ فكانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه، قال ابن سيرين أظنه ليكتبوه على العرضة الأخيرة ‏"‏ وفي رواية مصعب بن سعد ‏"‏ فقال عثمان‏:‏ من أكتب الناس‏؟‏ قالوا كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت‏.‏

قال‏:‏ فأي الناس أعرب - وفي رواية أفصح - قالوا‏:‏ سعيد بن العاص، قال عثمان‏:‏ فليمل سعيد وليكتب زيد ‏"‏ ومن طريق سعيد بن عبد العزيز أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل أبوه العاصي يوم بدر مشركا، ومات جده سعيد بن العاص قبل بدر مشركا‏.‏

قلت‏:‏ وقد أدرك سعيد بن العاص هذا من حياة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، قاله ابن سعد وعدوه لذلك في الصحابة، وحديثه عن عثمان وعائشة في صحيح مسلم، واستعمله عثمان على الكوفة ومعاوية على المدينة، وكان من أجواد قريش وحلمائها، وكان معاوية يقول‏:‏ لكل قوم كريم، وكريمنا سعيد‏.‏

وكانت وفاته بالمدينة سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين‏.‏

ووقع في رواية عمارة بن غزية ‏"‏ أبان بن سعيد بن العاص ‏"‏ بدل ‏"‏ سعيد ‏"‏ قال الخطيب‏:‏ ووهم عمارة في ذلك لأن أبان قتل بالشام في خلافة عمر ولا مدخل له في هذه القصة، والذي أقامه عثمان في ذلك هو سعيد بن العاص ابن أخي أبان المذكور ا هـ‏.‏

ووقع من تسمية بقية من كتب أو أملى عند ابن أبي داود مفرقا جماعة‏:‏ منهم مالك بن أبي عامر جد مالك بن أنس من روايته ومن رواية أبي قلابة عنه، ومنهم كثير بن أفلح كما تقدم، ومنهم أبي بن كعب كما ذكرنا، ومنهم أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس‏.‏

وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب في أصل حديث الباب، فهؤلاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثني عشر، وقد أخرج ابن أبي داود من طريق عبد الله بن مغفل وجابر ابن سمرة قال ‏"‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف ‏"‏ وليس في الذين سميناهم أحد من ثقيف بل كلهم إما قريشي أو أنصاري، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي ترسل إلى الآفاق فأضافوا إلى زيد من ذكر ثم استظهروا بأبي بن كعب في الإملاء‏.‏

وقد شق على ابن مسعود صرفه عن كتابة المصحف حتى قال ما أخرجه الترمذي في آخر حديث إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب من طريق عبد الرحمن بن مهدي عنه، قال ابن شهاب‏:‏ فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن مسعود كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال‏:‏ يا معشر المسلمين أعزل عن نسخ كتابة المصاحف ويتولاها رجل والله لقد أسلمت وأنه لفي صلب رجل كافر‏؟‏ يريد زيد بن ثابت‏.‏

وأخرج ابن أبي داود من طريق خمير بن مالك بالخاء مصغر‏:‏ سمعت ابن مسعود يقول لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة وإن زيد بن ثابت لصبي من الصبيان‏.‏

ومن طريق أبي وائل عن ابن مسعود بضعا وسبعين سورة‏.‏

ومن طريق زر بن حبيش عنه مثله وزاد‏:‏ وإن لزيد بن ثابت ذؤابتين‏.‏

والعذر لعثمان في ذلك أنه فعله بالمدينة وعبد الله بالكوفة ولم يؤخر ما عزم عليه من ذلك إلى أن يرسل إليه ويحضر وأيضا فإن عثمان إنما أراد نسخ الصحف التي كانت جمعت في عهد أبي بكر وأن يجعلها مصحفا واحدا، وكان الذي نسخ ذلك في عهد أبي بكر هو زيد بن ثابت كما تقدم لكونه كان كاتب الوحي، فكانت له في ذلك أولية ليست لغيره‏.‏

وقد أخرج الترمذي في آخر الحديث المذكور عن ابن شهاب قال‏:‏ بلغني أنه كره ذلك من مقالة عبد الله بن مسعود رجال من أفاضل الصحابة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة‏)‏ يعني سعيدا وعبد الله وعبد الرحمن، لأن سعيدا أموي وعبد الله أسدي وعبد الرحمن مخزومي وكلها من بطون قريش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في شيء من القرآن‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ في عربية من عربية القرآن ‏"‏ وزاد الترمذي من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد في حديث الباب ‏"‏ قال ابن شهاب فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال القرشيون التابوت وقال زيد التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان فقال‏:‏ اكتبوه التابوت فإنه نزل بلسان قريش ‏"‏ وهذه الزيادة أدرجها إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع في روايته عن ابن شهاب في حديث زيد بن ثابت، قال الخطيب‏:‏ وإنما رواها ابن شهاب مرسلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة‏)‏ زاد أبو عبيد وابن أبي داود من طريق شعيب عن ابن شهاب قال أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر قال ‏"‏ كان مروان يرسل إلى حفصة - يعني حين كان أمير المدينة من جهة معاوية - يسألها الصحف التي كتب منها القرآن فتأبى أن تعطيه، قال سالم فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه تلك الصحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فشققت وقال‏:‏ إنما فعلت هذا لأني خشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب ‏"‏ ووقع في رواية أبي عبيدة ‏"‏ فمزقت ‏"‏ قال أبو عبيد‏:‏ لم يسمع أن مروان مزق الصحف إلا في هذه الرواية‏.‏

قلت‏:‏ قد أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب نحوه وفيه ‏"‏ فلما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها الصحف، فمنعته إياها، قال فحدثني سالم بن عبد الله قال‏:‏ لما توفيت حفصة ‏"‏ فذكره وقال فيه ‏"‏ فشققها وحرقها ‏"‏ ووقعت هذه الزيادة في رواية عمارة بن غزية أيضا باختصار، لكن أدرجها أيضا في حديث زيد بن ثابت وقال فيه ‏"‏ فغسلها غسلا ‏"‏ وعند ابن أبي داود من رواية مالك عن ابن شهاب عن سالم أو خارجة أن أبا بكر لما جمع القرآن سأل زيد بن ثابت النظر في ذلك فذكر الحديث مختصرا إلى أن قال ‏"‏ فأرسل عثمان إلى حفصة فطلبها فأبت حتى عاهدها ليردنها إليها، فنسخ منها ثم ردها، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان فأخذها فحرقها ‏"‏ ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق، ويحتمل أن يكون بالخاء المعجمة فيكون مزقها ثم غسلها والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا‏)‏ في رواية شعيب ‏"‏ فأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف‏"‏‏.‏

واختلفوا في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق، فالمشهور أنها خمسة‏.‏

وأخرج ابن أبي داود في ‏"‏ كتاب المصاحف ‏"‏ من طريق حمزة الزيات قال‏:‏ أرسل عثمان أربعة مصاحف، وبعث منها إلى الكوفة بمصحف فوقع عند رجل من مراد، فبقي حتى كتبت مصحفي عليه‏.‏

قال ابن أبي داود أبا حاتم السجستاني يقول‏:‏ كتبت سبعة مصاحف إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا‏.‏

وأخرج بإسناد صحيح إلى إبراهيم النخعي قال‏:‏ قال لي رجل من أهل الشام مصحفا ومصحف أهل البصرة أضبط من مصحف أهل الكوفة، قلت‏:‏ لم‏؟‏ قال‏:‏ لأن عثمان بعث إلى الكوفة لما بلغه من اختلافهم بمصحف قبل أن يعرض، وبقي مصحفنا ومصحف أهل البصرة حتى عرضا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق‏)‏ في رواية الأكثر ‏"‏ أن يخرق ‏"‏ بالخاء المعجمة، وللمروزي بالمهملة ورواه الأصيلي بالوجهين، والمعجمة أثبت‏.‏

وفي رواية الإسماعيلي ‏"‏ أن تمحى أو تحرق ‏"‏ وقد وقع في رواية شعيب عند ابن أبي داود والطبراني وغيرهما ‏"‏ وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، قال‏:‏ فذلك زمان حرقت المصاحف بالعراق بالنار ‏"‏ وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال ‏"‏ لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيرا ‏"‏ وفي رواية بكير بن الأشج ‏"‏ فأمر بجمع المصاحف فأحرقها، ثم بث في الأجناد التي كتب ‏"‏ ومن طريق مصعب بن سعد قال ‏"‏ أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك - أو قال - لم ينكر ذلك منهم أحد ‏"‏ وفي رواية أبي قلابة ‏"‏ فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى أهل الأمصار‏:‏ إني قد صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي، فامحوا ما عندكم ‏"‏ والمحو أعم من أن يكون بالغسل أو التحريق، وأكثر الروايات صريح في التحريق فهو الذي وقع، ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك، وقد جزم عياض بأنهم غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها‏.‏

قال ابن بطال‏:‏ في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام‏.‏

وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاوس أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت، وكذا فعل عروة، وكرهه إبراهيم‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الرواية بالحاء المهملة أصح‏.‏

وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت، وأما الآن فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته‏.‏

وقوله ‏"‏وأمر بما سواه ‏"‏ أي بما سوى المصحف الذي استكتبه والمصاحف التي نقلت منه وسوى الصحف التي كانت عند حفصة وردها إليها، ولهذا استدرك مروان الأمر بعدها وأعدمها أيضا خشية أن يقع لأحد منها توهم أن فيها ما يخالف المصحف الذي استقر عليه الأمر كما تقدم‏.‏

واستدل بتحريق عثمان الصحف على القائلين بقدم الحروف والأصوات لأنه لا يلزم من كون كلام الله قديما أن تكون الأسطر المكتوبة في الورق قديمة، ولو كانت هي عين كلام الله لم يستجز الصحابة إحراقها والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال ابن شهاب وأخبرني خارجة إلخ‏)‏ هذه هي القصة الثالثة وهي موصولة إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور كما تقدم بيانه واضحا، وقد تقدمت موصولة مفردة في الجهاد وفي تفسير سورة الأحزاب، وظاهر حديث زيد بن ثابت هذا أنه فقد آية الأحزاب من الصحف التي كان نسخها في خلافة أبي بكر حتى وجدها مع خزيمة ابن ثابت‏.‏

ووقع في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب أن فقده إياها إنما كان في خلافة أبي بكر، وهو وهم منه، والصحيح ما في الصحيح وأن الذي فقده في خلافة أبي بكر الآيتان من آخر براءة وأما التي في الأحزاب ففقدها لما كتب المصحف في خلافة عثمان، وجزم ابن كثير بما وقع في رواية ابن مجمع، وليس كذلك والله أعلم‏.‏

قال ابن التين وغيره‏:‏ الفرق بين جمع أبي بكر وبين جمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته، لأنه لم يكن مجموعا في موضع واحد فجمعه في صحائف مرتبا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القرآن حين قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض، فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره كما سيأتي في ‏"‏ باب تأليف القرآن ‏"‏ واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم وإن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج والمشقة في ابتداء الأمر، فرأى أن الحاجة إلى ذلك انتهت فاقتصر على لغة واحدة، وكانت لغة قريش أرجح اللغات فاقتصر عليها، وسيأتي مزيد بيان لذلك بعد باب واحد‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ قال ابن معين لم يرو أحد حديث جمع القرآن أحسن من سياق إبراهيم بن سعد، وقد روى مالك طرفا منه عن ابن شهاب‏.‏